اختراق مجتمع الوزراء وجمعيات رجال الأعمال .. شراء الصحف والسيطرة علي النوادي والنقابات
تجنيد الأنصار في مشروعات المدارس والملاجيء والمستشفيات الخيرية
هم ساكنو التكايا السياسية.. ورثوها عن الخلافة العثمانية.. يضعون علي وجوههم أقنعة ديمقراطية.. لكن.. قلوبهم وذاكرتهم وتصرفاتهم بقيت فاشية.
إن الحرية الحقيقية.. والمواطنة الدستورية.. وسيف العدالة القانونية.. كلها مشارط حادة.. ساخنة.. ستقطع أرزاقهم.. وتشطب أحلامهم.. وتحيلهم إلي المعاش.
لكن.. الحزب الوطني الحاكم.. القابض.. الخافض.. الرافع.. المسيطر.. المهيمن.. المذل.. المتكبر.. القهار.. يمنح تلك الجماعة المزمنة الملتحفة برسالة السماء مقومات وجودها.. ومبررات نموها.. فهي ليست قوية إلا بقدر ضعفه.. وهي ليست متسامحة إلا بقدر تعسفه.. وهي ليست متطوعة إلا بقدر تقصيره. وكل منهما لا يطيق الآخر.. هو يضربها وهي تسبه.. هو يطاردها وهي تشهر به.. ونحن نقف في منتصف الطريق بينهما.. نبحث عن حل ثالث ينجينا منهما.
ونحن نعرف رأيه فيها.. لكن.. ما هو رأيها فيه؟. تحت يدينا وثيقة من وثائق الإخوان المسلمين الداخلية غير المتداولة بعنوان"حوار حول استراتيجية التعامل في الفترة القادمة"تحدد فيها الجماعة بصراحة متناهية هوية النظام السياسي القائم وعيوبه ومتاعبه وكيفية القضاء عليه لتقفز علي عرشه وتمتلك سلطته وتحكمنا من بعده.
إن النظام الحاكم في رأي مفكري الجماعة"هو التحدي الأول والأساسي الذي يعوق جهودها ويتناقض معها".. وهو في يقينهم نظام يستمد هويته من العلمانية.. لذلك"لا يطيق في سياساته الفكرة الإسلامية بل يحاصرها ويعاديها علي طول الخط".. وإن كان لا يفصح عن ذلك في خطابه الرسمي"لاعتبارات تتعلق بالظروف والملاءمة السياسية ولكنه يترك لسياسته الثقافية والإعلامية والتعليمية مهمة إبرازها وتعميقها في مجري الحياة العامة في مصر".
والحقيقة أنه لم تظلم كلمة جري تداولها في الشارع السياسي كما ظلمت كلمة العلمانية.. فغالبية من يستخدمونها يقصدون بها الكفر والإلحاد وهذا غير صحيح.. إن الكلمة مشتقة من كلمة العالمين.. عالم الله وعالم البشر.."إعطِ ما لقيصر لقيصر وما لله لله".. ليكف رجال الدين عن الحكم.. ومنع قيام الدولة الدينية المرفوضة في الإسلام.
لكن.. الإخوان يرون العلمانية التي يصفون بها النظام هي"نقطة افتراق حقيقية وليست متوهمة"بينهم وبينه وإن استدركوا قائلين: ولكن.."لا يعني ذلك القول بتكفير أو تجهيل ــ من الجاهلية ــ النظام الحاكم".
وأضافت الجماعة إلي علمانية النظام"عدم شرعيته".. فهو"نظام لا يحترم الأسس الدستورية أو القواعد القانونية في البلاد".. ودليلهم علي ذلك:"حالة الطوارئ المستمرة من قبل مجيء الرئيس مبارك إلي الحكم".. وغياب التأييد الشعبي للنظام.. وقيام العلاقة بينه وبين الشعب علي"الخوف المتبادل"في"إطار من الشك والارتياب وانعدام الثقة".
وتتضمن الورقة نقطة ثانية تحدد بنية النظام وطبيعته وقد لخصها المتحاورون من مفكري الجماعة في: المركزية الشديدة.. واحتكار النخبة العسكرية أو ذات أصول عسكرية القضايا السياسية.."وأحيانا تغدو العملية السياسية مركزة في شخصية القيادة السياسية".. ورغم وجود أحزاب"فإنها لا تعدو أن تكون ديكورا للتجميل أمام القوي الخارجية".. ورغم وجود مؤسسات"إلا أنها تعاني من اختراقات متعددة تجعلها عاجزة عن قيادة مسيرة التطور والتغيير الذي يبقي في كل الأحوال رهنا بالإرادة الفردية للقيادة السياسية".
والحقيقة أن كل هذه الانتقادات يمكن أن يحظي بها الإخوان أيضا.. فهم تنظيم يقوم علي مبدأ "السمع والطاعة" وتنفيذ أوامر المرجعية الدينية دون نقاش أو حوار إلا في حدود ضيقة عند القمة في مكتب الإرشاد أحيانا.. كما أن تاريخهم الدموي في تصفية خصومهم يجعل منهم جماعة إرهابية تلجأ إلي القتل والتفجير عندما تعجز عن الوصول إلي ما تريد بالدعوة والتفاهم والحوار.
وتعتبر الورقة الإخوانية أن "القوي الخارجية" هي أهم مصادر قوة النظام.. فهو"يحقق أهداف هذه القوي في المنطقة وهو جزء من استراتيجيتها العامة بل هو الجزء البالغ الأهمية والفاعلية فيها".. وفي المقابل يحصل النظام منها علي"المساعدات الاقتصادية والعسكرية بخلاف الدعم المعنوي والثقافي".. وهو"لا يستطيع الاستمرار دون هذا الدعم".
ويبدو أن ذلك التصور جعل الإخوان يمدون جسور الاتصال بينهم وبين تلك القوي الخارجية.. وقد كشفت معلومات عن حوارات ولقاءات جرت بينهما ربما ليكون الإخوان بديلا للنظام في تحقيق استراتيجية القوي الخارجية.. خاصة أن الإخوان يقولون في هذه الورقة إن النظام استنفد دوره في "التخديم" علي استراتيجية هذه القوي بكفاءة.. وتضيف الورقة: إنه قد برزت قوي داخل المجتمع يمكن أن تشكل بديلا أصلح من هذا النظام في تنفيذ إرادات هذه القوي الأجنبية".
أما مصدر قوة النظام داخليا فيحدده الإخوان بامتلاكه أدوات"القهر والقمع بشقيه الجسدي والفكري".. الشرطة من ناحية ووسائل الإعلام من ناحية أخري.. وبالنص تقول الورقة: إنه"من خلال هذه الأدوات فإن النظام السياسي يمتلك قدرة هائلة علي رسم صورة معينة لنفسه ولسياساته المختلفة وتسريب هذه الصورة في الوعي الجماعي لدي كل طبقات المجتمع والعمل علي توزيعها والإلحاح عليها حتي تستقر في الأذهان وتصبح بمثابة أنماط جامدة يتصرف الناس من خلالها ويعتقدون في سلامتها وصحتها المطلقة وفي نفس الوقت فإن النظام السياسي يعمد إلي إنتاج صورة شائنة أو مشوهة لأية حركة تسعي لتغيير الواقع وإعادة إنتاجه بطريقة أكثر إيجابية".. وهو"يهدف من خلال ذلك إلي تكوين قاعدة اجتماعية مؤيدة ومناصرة لسياساته وقراراته وداعمة لتصرفاته وفي نفس الوقت تقلل من إمكان تبلور بديل حقيقي يسعي إلي تغيير الأوضاع الراهنة".
ولا يفوت الإخوان بالطبع ذكر مصادر ضعف النظام وقد انتهي حوارهم الداخلي إلي التركيز علي"ضعف الأساس الشعبي والسند الجماهيري للنظام".. وعدم ضمان استمرار مساندة القوي الخارجية له.. فالولايات المتحدة"إذا شعرت بأن النظام قد أدي دوره المرسوم له فإنها يمكن أن تدفع باتجاه تغييره".. و"المؤسسة العسكرية رغم كونها السند الأساسي للنظام فهي غير مأمونة ويمكن بأن تتحول في ولاءاتها إذا شعرت أن مصالحها الحقيقية قد بدت مهددة تهديدا حقيقيا (والدليل علي ذلك أحداث الأمن المركزي) التي تمثل التعبير الحقيقي عن الحكمة القائلة «إنما يؤتي الحذر من مأمنه.».كما أن المبالغة في الدعاية السياسية الفجة يمكن أن تقود إلي نتائج عكسية وذلك بالنسبة لسياسات النظام الحاكم".
ويضاف إلي هذه العوامل عامل يري الإخوان أنه شديد الأهمية في تسريب الضعف إلي مفاصل النظام وهو"عدم امتلاكه لفلسفة أو عقيدة حقيقية يمكن أن يحشد بها الجماهير حوله.. أو بعبارة أخري ليس لديه مشروع قومي يحظي بإجماع الأغلبية من الشعب المصري وبالتالي فإن السياسات تنطلق من اعتبارات برجماتية (نفعية حسب الظروف) مجردة من أية قيم حقيقية تضفي علي الممارسات معني أو بعدا أخلاقيا ولو افتعالا ومن هنا فإن هذه السياسات تمارس يوما بيوم فعليا".
والحقيقة أن مثل هذا التصور يقع في خطأ جسيم وهو البحث عن مشروع قومي يحشد به النظام الجماهيري.. فنظريات الحشد الجماهيري ثبث فشلها في النظم الفاشية والشيوعية والنازية التي انتهت إلي كوارث سياسية وعسكرية محققة.. ويمكن أن يكون المشروع الديمقراطي هو المشروع السياسي الذي ينجو به النظام المصري من كل العيوب ونقاط الضعف التي ينسبها الإخوان إليه بشرط أن يكون مشروعا جادا ينظر إلي المستقبل بعيون مفتوحة ويكون الشعب طرفا في صياغته الدستورية والحزبية والسياسية.
وهناك عامل أخير من عوامل ضعف النظام حسب رؤية الإخوان هو"عدم وجود مؤسسات حقيقية يعتمد عليها النظام في رسم سياساته وتنفيذها".. فهو"يعتمد علي"الأشخاص"وعلي عناصر الثقة فيهم مما يجعل السياسة غير مستقرة أو مستمرة ووجود إمكانات"فساد سياسي"حقيقي في جنباته".
هذه هي صور التحاليل السياسية (رسم المخ ورسم القلب وقياس مستوي التجلط في الشرايين) التي قام بها الإخوان للنظام الحاكم.. فكيف تكون روشتتهم للتعامل معه؟.. وحسب الورقة السرية غير المنشورة من قبل اقترح البعض"ضرورة فتح قنوات اتصال بين النظام والجماعة وخلق أجواء للحوار والتفاوض"ولو مرحليا.. وهو تصرف برجماتي سياسي من جماعة تري أن مبادئها ثابتة مقدسة.. بل إنهم مستعدون لذلك الحوار"حتي وإن لم يكن مجديا"بنص كلماتهم.
كما أنهم بسذاجة لا تخلو من التفاؤل يدعون للتفرقة بين مؤسسات الدولة وأجهزة الحكم.. وفي الوقت نفسه يدعون لاستخدام"ورقة الضغط الخارجي بفعالية وتخطيط عملي وحسابات حقيقية ورشيدة حتي يتم علي الأقل التخفيف من قبضة الضغط الإعلامي والأمني والسياسي علي الجماعة".. ويفهم من ذلك أن عليهم التفاهم مع الولايات المتحدة والعمل معها ضد النظام إن أمكن ذلك.. وكأنهم يمارسون الشيء نفسه الذي يأخذونه علي النظام الحاكم.
لكن.. ذلك لا يعني"المزيد من الاستمرار في نشر الدعوة وفتح آفاق جديدة لها واستخدامها في تخفيف الضغط مع عدم استعجال النتائج".. مع"المزيد من التنسيق مع كافة الحركات الإسلامية التي تتفق معها"في الداخل والخارج تحت شعار"التحالف الإسلامي".. ودون التفريط في مبدأ"دخول انتخابات المحليات"والتنسيق مع الأحزاب السياسية الرسمية خاصة في قضايا الحريات وقضايا الفساد وقضايا عدالة التوزيع.. كما يجب التنسيق معها في الانتخابات العامة والنقابية أيضا.
لقد حافظ مبارك علي عدم الاعتراف بمشروعية الجماعة ورفض استقبال مرشدها العام عمر التلمساني ضمن المفرج عنهم بعد اغتيال السادات لكنه في الوقت نفسه ترك فترة من السماح شهدتها العلاقة بين الإخوان والنظام حتي عام 1990 اندفعت الجماعة خلالها لدخول النوادي والنقابات والبرلمان وهو ما أنهي تلك الفترة الهادئة.
وحسب ما جاء في هذه الورقة المهمة فإن الجماعة حرصت علي تبديد مصادر الخوف والقلق لدي النظام من الإخوان"مع الحفاظ علي استمرارية الدعوة وانتظامها".. كما حرصت علي إقامة قنوات اتصال مع الأجهزة الأمنية"لنقل الصورة عن واقعها وطمأنة هواجسها تجاه الإخوان".. وتلاقت مع الأحزاب والقوي السياسية"في المواقف القومية المشتركة".. ووضعت"خطة لمواجهة سياسات النظام المتعلقة بتحجيم الجماعة وحصارها واقعيا".
وانتهت الورقة بعد طول نقاش ممن وضعوها إلي وضع استراتيجية طويلة الأمد"تستهدف تحقيق أهداف محددة في الفترة القادمة تؤدي في النهاية إلي انتهاج أسلوب يتسم بالعقلانية المعتادة والهدوء النسبي الذي لا يؤدي إلي خمول الصف ولا إلي جمود الحركة "وهو أمر في غاية الأهمية" في ظل السعي لإعادة اكتساب أراضٍ ومواقع جديدة".
ويكون ذلك من خلال مشروعات محددة بعينها مثل "إنشاء مدارس ومستشفيات خاصة ودور للأيتام وفروع تجارية تخدم مناطق ومحافظات مختلفة وجمعيات للحرفيين مثل جمعية عمال المحاجر في البساتين.
وبجانب التسلل إلي الناس عبر تلك المشروعات"يجب استغلال الكيانات الاقتصادية القائمة والعمل علي تطويرها مستفيدين من فرص الانفتاح والاستثمار التي أعلن عنها وإنشاء شركات تتناسب مع هذا التطور وإشراك عدد أكبر في جمعياتها العمومية".. لتكون هناك في النهاية شركة قابضة تضم كل شركات الجماعة وأعضائها.. بجانب الاتصال بجمعيات رجال الأعمال باعتبارها"أحد أهم جماعات الضغط الحالية مع الاهتمام بالمصالح الاقتصادية المدافعة عنها وتوجيهها عند الإمكان نحو الأهداف المشتركة".
ولابد أيضا من"انتهاز الفرص وتبني القضايا الوطنية المتفق عليها مثل قضية إنشاء السوق العربية المشتركة وقضية التضامن مع الشعب العراقي وقضية التواصل مع التكتلات الدولية والإقليمية التي تتفق مع مصالحنا والتوجه نحو افريقيا والاتجاه نحو إعادة العلاقات مع إيران".
ولابد كذلك " من استنهاض همم المواطنين نحو الانتماء والتصدي لقضايا التفكك الأسري والخلافات والعلاقات الزوجية ومشاكل الشباب مثل الزواج والبطالة والفراغ والانحرافات الاجتماعية مثل الخدمات والبلطجة".. و"إصدار كتيبات وكاسيتات وشرائط فيديو حول هذه القضايا وتوضيح رؤانا الفقهية والعلمية في سبيل حلها".
ولا ينسي واضعو الاستراتيجية الإخوانية التعامل مع صفوة المجتمع والحصول علي معلومات مباشرة من دوائر الوزراء واسرهم والمقربين منهم والنوادي وخاصة نوادي السيارات والنوادي الرفيعة المستوي اجتماعيا مثل الجزيرة والصيد وغيرهما بجانب التعامل مع المثقفين والمؤثرين في صياغة عقول الأمة ومحاولة الاتصال بدوائر الفكر وحضور منتدياتهم وصالوناتهم الفكرية لعرض الفكرة الإسلامية واستثمار أصحاب الأقلام المعروفة في عرض القضايا المشتركة مثل أحمد بهجت وفهمي هويدي وعبد الوهاب المسيري.
أما الصحافة "فلابد من محاولة استصدار أكثر من صحيفة يتسع انتشارها مع الوقت أو النفاذ إلي أكثر من صحيفة تكون عنوانا لنا في مواجهة الحملة الإعلامية الشديدة ضدنا ويفضل أن تكون بأسماء غير معروفة بتوجهاتها".."وفي هذا الصدد علينا دراسة مدي إمكان استصدار صحف في الخارج أو مجلات مركزها الرئيسي في دولة أجنبية ويكون لها فروع في مصر كما نري من المفيد السعي بأسلوب معين لتكوين شركة صحافة".
وهناك وسائل أخري يدعون إليها منها تقديم الخدمات من منظور إسلامي والاستفادة من الفرص السانحة لكسب تأييد المجتمع في قضية ما مثل التعذيب.
لكن.. قبل ذلك لابد من تفعيل الدور الخارجي"فلاشك أن الحملة الناجحة التي قادها إخواننا بالخارج آتت ثمارها علي النظام في الداخل وبقدر ما يكون تفعيل الخارج بقدر ما يخفف عن الداخل ويجب وضع خطة في هذا الصدد ويمكن تفعيلها بوسائل مختلفة".
إن الوثيقة لا تحدد من ناقشها ومن صاغها ولا متي طبعت ووزعت علي قيادات الإخوان العليا.. لكنها.. كما هو واضح من كل سطر فيها ترسم خطة طويلة النفس.. لا تخلو من التفاصيل الصغيرة.. وهي خطة يقدمونها للنظام الحاكم علي طبق من كريستال.. علي أنه في النهاية لا يهتم.. ولا يبالي.. وهذه هي القضية الأساسية والاستراتيجية الدائمة.