فور إعلان قرار رشيد محمد رشيد بفرض رسم تصدير علي طن الحديد بـ160 جنيها سارع أصدقاء امبراطور الحديد أحمد عز بنشر شائعة أن خسائر عز من هذا القرار ستصل إلي 650 مليون جنيه سنويا. وهي شائعة ضمن شائعات اختلط فيها الاقتصاد بالسياسة وامتزج الخيال بالحقائق. فلو أن خسائر عز 650 مليون جنيه فهذا يعني أن شركات عز تقوم بتصدير نحو 5،4 مليون طن وهو رقم يقترب من اجمالي إنتاج الحديد في مصر سواء حديد عز أو حديد بشاي وغيرهما من المنتجين. شائعة الخسائر رددها البعض بحسن نية، وساقها آخرون لتخفيف الغضب الشعبي علي أمين التنظيم. لا تتجاوز خسائر عز من القرار 200 مليون جنيه وهو رقم لا يعني الكثير للملياردير الشاب.
ولكن أخطر شائعة أو نميمة سياسية ارتبطت بالقرار هو ما روجه مريدو «عز» وأصدقاؤه من أن عز مستهدف ـ تصوروا ـ وأنه مستهدف تحديدا من رشيد تحولت نكتة «سلح حزبك بحديد عز» لنكتة أخري تقول إن رشيد بني شعبيته الجماهيرية والسياسية علي انقاض حديد عز. النكتة اتسعت لتشمل أصدقاء ناصف ساويرس المتضرر الأكبر من قرار رشيد في الأسمنت والنكتة الأخري تقول إن رشيد ظلم مصنعي الأسمنت لينال من عز. وهذه النكت فرصة للضحك و«الكركرة» من خلافات الكبار جدا في البيزنس والسياسة والحكومة.. ثلاثية تعايشت سلميا طوال سنوات طويلة.. ثلاثية تزاوجت وانجبت حيتانا من كل نوع وشكل.
في قلب قصص النميمة السياسية أن رشيد وعز ينتميان إلي قمة الحزب الوطني كلاهما عضو في هيئة مكتب أمانة السياسات كلاهما ينتميان لمدرسة الفكر الجديد والعصر الجديد كلاهما في نفس السن تقريبا، علي أعتاب الخمسين بسنوات متقاربة.
رغم اغراء حكاية الخلاف بين نجوم أمانة السياسات فإن ثمة جانبا آخر في القصة أكثر اغراء بالنسبة لي، اغراء يخرج من اطار النميمة السياسية إلي المصلحة الاقتصادية لمصر، هذا الاغراء يجذبني إلي التشابه الأهم بين رشيد وعز كلاهما ينتميان لعالم البيزنس، أحدهما دخل السياسة من باب الوزارة والآخر دخلها من باب العمل الحزبي وكلاهما ينتمي لحزب الحكومة وحكومة الحزب الخلاف بينهما يكشف عن خطر وخطأ في تركيبة وخريطة البيزنس في مصر.
رشيد خريج أرقي الجامعات الأمريكية «هارفارد» وقضي أكثر من ربع قرن من حياته في عالم البيزنس ما بين مصر لتطوير بيزنس العائلة ثم انتقل للمساهمة في إدارة واحدة من الشركات العالمية في لندن وذات الفروع المختلفة في العالم وعمل مستشارا للحكومة التركية، تاريخ رشيد كله في القطاع العالمي وآراؤه وقلبه وعقله مع الاقتصاد الحر.
هذا الرجل مخلص لأفكار لا تنتمي للعهد الاشتراكي وقد نجح في عمله الخاص وجني أرباحا واسما لا يمكن الاستهانة بهما، حين اختير رشيد لتولي الوزارة تحمس رجال الأعمال في مصر لهذا الاختيار كادوا يطلقون الزغاريد، اعتبروه ممثلا ساميا لمطالبهم ولم يكن رشيد يتوقع أن تتحطم علاقاته بنجوم البيزنس علي صخرة الوزارة هو نفسه كان شديد التفاؤل وحسن النية تجاه المستثمرين ورجال الأعمال، في أول مؤتمر صحفي عقده الوزير رشيد بعد شهرين من توليه لمنصبه عاتب الصحفيين لأن الإعلام يشوه صورة رجل الأعمال في مصر وأن هناك مبالغات كثيرة تنال من الدور الوطني لرجال الأعمال وبعد أقل من ثلاث سنوات يواجه رشيد عاصفة انتقادات من رجال أعمال بارزين وأصدقاء ويدخل رشيد طرفا في شائعات اضطهاد رجال الأعمال لبناء شعبية سياسية.
لم تكن أول معاناة لرشيد مع حديد عز أو أسمنت ساويرس، لم تكن أولي صدماته في القطاع الخاص المصري معهما، قبل ذلك التقط رشيد من خلال لقاءاته برجال أعمال أن ثمة خطأ في فهم الحرية الاقتصادية.. من قبل اكتشف رشيد أن تشويه صورة رجال الأعمال في مصر يتم أحيانا بالجهود الذاتية الخالصة لهم.
تعلم رشيد أن المستهلك هو الملك المتوج الذي يسعي الجميع لارضائه وتدليله ولكنه اكتشف أن هذه البديهية في الاقتصاد الحر تنتحر لدي أول مصلحة قصيرة المدي ومباشرة لبعض رجال الأعمال المصريين.
في جولاته للترويج لقانون حماية المستهلك بمناسبة بدء عمل جهاز حماية المستهلك استمع رشيد لبعض الآراء العجيبة والدخيلة علي الأفكار الرأسمالية وجد استهزاء بالمستهلك ومصالحه ففي الفكر الرأسمالي لو فقد المستهلك قدرته علي الشراء لأصيب النظام الرأسمالي بالسكتة القلبية ولكن بعض رجال الأعمال المصريين يعاملون المستهلك كأنه عبد ليس له حقوق ومن إخلاصه للفكر الرأسمالي نصح رشيد الجميع بالتزام قواعد السوق بدلا من اجبار الحكومة علي اتخاذ إجراءات عقابية، من إخلاصه لأفكاره امتنع رشيد عن التشهير بهم مرة واحدة كان رشيد يحضر اجتماع لجنة الصناعة في مجلس الشعب وقال إن رجال الأعمال يجب أن يلتزموا بالقواعد ويحافظوا علي السوق، قالها بمرارة وضيق لم ينجح صوته الهادئ في اخفائها، فيما بعد علمت أن رشيد كان قادما من اجتماع ساخن مع إحدي منظمات الأعمال حول أبسط حقوق المستهلك.
هل كانت مرارة رشيد من أن رجال الأعمال يرحبون به كوزير صناعة يساند صناعاتهم ويهاجموه كوزير مسئول عن حماية المستهلك من تجاوزتهم؟ هل كانت مرارة رشيد من أن أفكاره وربع قرن من عمره يتعرضان لهزة عنيفة تحتاج إلي إعادة نظر في وضع الرأسمالية المصرية إن وجدت؟ هل كان رشيد يشعر بنفس الضيق والمرارة حينما اضطر للتدخل بفرض رسوم إدارية في اقتصاد سوق حر وهو إجراء صحيح ولكنه مكروه علي طريقة ابغض الحلال؟! هل يشعر رشيد بمرارة وحزن علي علاقات بأهل البيزنس تصور أنها ستدعم تجربته فانقلبوا عليه؟
بهذه التساؤلات لم تعد خسائر عز هي المهمة ولكن الأهم أن تحاول الحكومة أن تضبط ايقاع السوق بعيدا عن مصالح فلان أو علان بهذه الصورة يصبح «عز» رمزا لخطر الاحتكار في سوق استراتيجي مثل سوق الحديد. بهذه الصورة يحتاج رشيد إلي دعم سياسي وشعبي كبير ليستكمل خطوات إصلاح السوق والقضاء علي عشوائية الأسواق، ربما دفعت الارتفاعات المجنونة في أسعار الحديد والأسمنت إلي قرار مؤقت وحاد ولكن الأمر يحتاج إلي تقوية أجهزة مراقبة السوق «جهاز المنافسة وجهاز حماية المستهلك» ربما يحتاج الأمر إلي أن تؤجل الدولة قرارها بالخروج من إنتاج بعض السلع الاستراتيجية ربما تدفع الأزمة الأخيرة بأخذ رأي السياسي أحمد عز الذي دعا إلي الغاء الدعم علي الغاز الطبيعي للمصانع وعلي عامين فقط حتي لو كان هذا الرأي ضد مصالح امبراطور الحديد أحمد عز، يجب أن يتعلم عز من درس رشيد، فدخول عالم السياسة له ثمن يجب أن يدفعه رجل الأعمال، رشيد يدفع ثمن قراره الآن وعلي يد أصدقاء الأمس