وأخيراً وصلنا إلى مرحلة "الفكر الجديد" حيث السرقة من المنبع، من بيوت المال أي البنوك، ولم يعد اللصوص بالضرورة من المحتاجين، بل من الجشعين الأنانيين، ولم تعد أدواتهم هي "الطفاشة" أو "الأجنة" أو حزمة المفاتيح، بل صار اللص "باشا قد الدنيا"، يرتدي السموكنج، ويدخن السيجار، ويركب السيارات الفارهة، ويتأبط ذراع إمرأة لعوب، ويستخدم لحمايته و"برستيجه" فريقاً من البلطجية كحراس خصوصيين، ويخطط لجريمته بعناية بالاشتراك مع فاسدين متنفذين في أروقة السلطة، فالمهم أن يكون "الورق سليم، ويمشي في الحديد"، وبعد ذلك هناك فرق قانونية على أهبة الاستعداد للدفاع عنه، حتى يحصل على البراءة الإجرائية، وفي التفاصيل تسكن الشياطين، فإلى هناك نحاول الاقتراب من هذا العالم قدر المتاح .
سيد الجن
"أنا سيد الجن .. شريب السم .. لا حكومة تهم ولا قسم يلم" لم ترد هذه العبارات في سباق عمل درامي بالطبع بل جاءت على لسان أحد اللصوص يدعى سيد أبوسريع، الشهير بـ "سيد الجن" في مشهد أكثر صدقاً وتعبيراً عن واقع الهامشيين من اللصوص والمحتالين والبلطجية الذين يفرضون أنفسهم ـ كضيوف شرف ـ على كل الأفراح الشعبية التي تقام في الشارع في حزام العشوائيات الذي يحاصر القاهرة وفي أحياء كمنشية ناصر أو الدويقة أو حكر أبودومة أو عزبة أبوقرن فضلاً عن مديني السلام والنهضة وغيرهما .
ولم يتوقف المشهد عند هذا الحد فقد أخرج سيد الجن رزمة نقود من جيبه بطريقة مسرحية أخذ يدسها بين بدلة الراقصة وجسدها، وقد ألجمتها جرأته فتسمرت في مكانها خاصة حينما أستل مطواة قرن غزال من بين طيات ملابسه، لكنه حين استشعر خوفها أمسك بيدها وأخذ يراقصها برشاقة وإنفعال محموم .
وفجأة قفز سيد الجن من أعلى خشبة المسرح المقام في الخلاء واتجه مباشرة صوب رجل عجوز وأحتضنه بود وقبل رأسه بإجلال وأمسك بيده وساعده على اختراق صفوف المدعوين حتى صعد به على المسرح ثم انتزع الميكروفون من المغني، وأشار إلى الفرقة الموسيقية كي تتوقف عن العزف، وبدأ يقدم الرجل العجوز للحاضرين بهذه العبارات :
"عمي المعلم عبده كاكا .. أصل الشقاوة .. أسطى العصاية شرق وغرب.. الدهن في العتاقي.. شيخ الكار إللى دوخ حكومة مصر كلها في شبابه .. سجون قبلي وبحري تشهد له .. وعمره ما خان صاحبه ولا خطف لقمة من بق الجعان، ثم أشار للفرقة بحركة آمره.. وواصل حديثه قائلاً :
"رقصنا ع التت والتوبة .. وظلموني الناس" وأخذ الرجل العجوز يرقص بخفة مذهلة والحاضرين يهللون ويصرخون طرباً حتى حمل عبده كاكا بين ذراعيه كطفل وهبط يطوف به بين المدعوين الذين كانوا يتسابقون على دس النقود في يده والرجل يفحصها بعناية ويعدها باحتراف قبل أن يقبل خد مريديه كأنهم يمنحهم البركة في طقوس مثيرة .
وقبل أن تخوض في سرد التفصيلات كان ضرورياً أن أتحدث مع سيد الجن، وعبر عدة وساطات متشابكة اطمئن وأخذ يحدثني بلهجة القاهرة الشعبية التي تنطق الطاء تاء والصاد سين ويشرح لي العبارات التي قالها على المسرح "مثل أصل الشقاوة وأسطى العصابة" و"شيخ الكار" و"التت والتوبة" قائلاً:
شوف يا باشمهندس، الشقاوة يعنى الناس إللي بتشقى على لقمة عيشها زينا، والعصاية (العصا) دى لمؤاخذة تبقى الأجنة إللى بتشتغل بيها الهجامة.
وسألته عن المعلم الذي يقصده فأومأ لي بطرف عينه قائلاً:
المعلم هو اللي الحكومة والأفندية بيقولوا عليه حرامي لا مؤاخذة، ثم مضى يواصل شرح بقية المصطلحات بقوله: "شيخ الكار والمعلم عبده كاكا، والمعلمين إللى دولم الأساتذة إللى حنكهم الزمن وما عملوش حاجة يعني زى أول زى تاني مولاى كما خلقتني، بس كانوا رجاله ولا عمرهم اشتغلوا مرشدين للحكومة، ولا مدوا إيدهم في جيب الغلبان، دول يا باشا ناس تعرف الأصول وما لهمش في التجرمة وقلة الأدب .
وإيه حكاية التت والتوبة؟
الله ! هو أنت مش من هنا ولا إيه يا أخ ؟ .. هو لمؤاخذة سيادتك خواجة؟، ما سمعتش عن سهير زكي وفيفه عبدو ؟
يا اسطى الهجام يعني زي ما بيقولوا في الحكومة نشاطه مساكن، يعني بيسرق شقق وفلل وخزن وعندك الدكتور إللى نشاطه سيارات والمشرط يبقى النشال والهفاف ده الحرامي الرمة الخايب اللي بيخطف الشنط والسناسل من الحريم وفيه العيال النصابه (النصابين) بتوع الثورة والسكة والخشبة والمسمار والتفه .
الثورة والسّكة
سألته : يعني إيه الثورة والسّكة والخشبة والمسمار والتفه؟، فأجاب :
العيال النصابة دول بقى شباب آخر حلاوة تشوفهم تقول عليهم دكاترة ولا ظباط، فالثورجي يعمل ظابط ومعاه ثلاثة يعملوا مخبرين ويقفوا الزبون إللى جاى من الصعيد والفلاحين ويشتغلوه ويقلبوه ويأفشوا منه .
والسكة (بفتح السين وتشديدها) دي معناها إن واحد يلبس سعودي ويركب التاكسي مع سواق معرفة ويصطادوا واحد متسيغة ويلاغيها بالسعودي ويقول لها عايز أبدل دهب براني علشان كنت خاطب واحدة طلعت أى كلام ولازم أسافر وممنوع من أخذ الدهب معايا أحسن يمسكوه في المطار وبعدين تطمع الزبونة في الحاجة ويأخذ منها دهبها رهينة لحد ما يلاقوا جواهرجي وبعدين يخلع ويسيبها ولما تروح تتصرف الدهب تلاقيه قشرة وباى باى يا حلوة .
أما الخشبة والمسمار دى لعبة التلامذة المستجدة في الكار يحط خشبة فيها مسامير في شارع زحمة تعدى عليها العربية يفرقع الكاوتش يقف البيه ولا الهانم محتارين يجي الواد يقوله أساعدك يا باشا ويخشى على الاستبن ويمسك الكوريك ويغير العجلة والزبون مشغول في الفلم ده يقوم بهف شنطة ولا نضارة من العربية ويخلع .
نيجي بأه للتفة دى يعملوها اتنين واحد يتف على جاكتة أو بروفل واحد ويجي التاني يقوله امسح لك الوساخة ويقلبه ع السريع وما أعطلكش.
وعبده كاكا كان نظامه إيه؟
المعلم عبده كان شيخ الهجامين مفيش كالون يقف في إيده وكان بيشتغل لواحده يعني لا معاه ناضورجي ولا حد يأمن له على المطرح ولا دياولو, هو يأمن على الشقة يوم واتنين وأسبوع ويمكن شهر وبعدين يأخذ العدة زى العصاية والمفتاح ويفور الباب أو البلكونة ويأخذ المفيد.
وإزاى كان بيتمسك؟
عمره ما اتقفش تلبس بس أولاد الحرام كانوا بيرشدوا عنه ويسلموه للمباحث.
تقصد زملاءه من الحرامية؟
يعنى فيه عيال دخلت الكار زى التلامذه إللى بتشم وعندك كمان المرشدين والعملا
يعني عملا للشرطة مثلاً؟
لا .. يعني عملا المسروقات زى التجار إللى بتتعامل مع الحرامية وتشتري منهم البداعة ولما الحكومة ترنقهم يقولوا على إللى باع لهم وتمسكهمم المباحث وقضية وسجن والذي منه بقى.
وإنت ما اتحبستش قبل كده؟
فابتسم قائلاً: فشر السجن للرجالة الجدعان وإللى ما دخلش السجن ما دخلش دنيا والحياء (هكذا نطق الحياة) تجارب زى ما بيقولوا.
إنت متجوزتش يا سيد؟
آه إتجوزت مرة وطلقت ودلوقتي ناوي أتأهل مع بت هنجرانية كسيبة وجدعة.
حكاية الهنجرانية
سألته : يعني أيه هنجرانية؟، فرد قائلاً :
الهنجرانية دول عائلات الحرمة فيهم بعشر رجاله، هى إللى بتشتغل وتسرح في الأسواق تعمل باكو أو اتنين كله حسب التساهيل وهما كانوا بيتجوزا من بعض زمان لكن دلوقت خلاص البت تتجوز إللى يقدرها، أصل لمؤاخذة رجالتهم تنابلة الواحد يروح يدفع لأبوها خمسين ألف ويشتريها وهى تصرف عليه وهو قاعد في البيت ياكل ويشرب ويعمل دماغ وسلامتك يا رأسي ولما الحرمة تتمسك يروح يزورها في القسم والسجن ويجيب لها عيش وحلاوة وبعد لما البنات لفوا في الدنيا واتنوروا دلقوا التنابلة دولم والواحدة تقول اتجوز راجل يشقى معايا وألاقيه في ضهري.
وأبواها يجوزوها واحد غريب زيك؟
يوافق ولا عنه ما وافق هو الخسران لما بيلاقي التيار شديد عليه بيرضى ويقبض مهرها يحطه في جيبه وحلال عليك يا جن، هو أحنا لو مؤاخذة بنعمل حاجة غلط دا جواز في الجد الجداني، ومأذون ميري، وأبوحنيفة النعمان وأهو كله بيرزق .
والرأي الأرجح في أصول "الهنجرانية"، أنهم من قبائل غجرية نزحت إلى مصر عبر العصور المختلفة، واستقر المقام بهم في عدة محافظات مصرية منها الفيوم والدقهلية وشبرا الخيمة وبعض أحياء القاهرة كالإمام الشافعي والمرج والزاوية الحمراء .
ولهذه القبائل تقاليدها الخاصة وقانونها العرفي وينفرد أفرادها بممارسة أنشطة خاصة بهم دون غيرهم كالنشل الذي تقوم به النساء فقط وتدرب الأم ابنتها عليه منذ نعومة أظافرها ويتمتع نساء الهنجرانية بجمالهن الآخاذ فضلاً عن إجادتهن للسرقة بخفة وبراعة منقطعة النظير وفي المقابل فإن الرجال لا يقومون بأى عمل على الإطلاق سوى السهر طوال الليل وتعاطي المخدرات والخمور ويستيقظ الرجل الهنجراني بعد العصر عادة ليجد زوجته قد عادت بعد إنتهاء جولتها اليومية في الأسواق والمناطق التجارية المزدحمة، وعليها أن تسلمه كل النقود التي سرقتها وليس من حقها الاحتفاظ لنفسها بأي شئ .
ومن المعروف أن هناك تقاليد راسخة لدى قبائل وجماعات الغجر، في صدارتها السلطة الأموية داخل القبيلة، فالأم هى صاحبة القرار والمسئولة عن الكسب والإنفاق وبيدها مقاليد الأمور داخل الأسرة والأمر الثاني هو منظومة القيم التي تتعارض مع القيم الاجتماعية السائدة كإحتراف السرقة والغناء والرقص وتعطل الرجال عن العمل واحتفاظ الآباء بمهور بناتهن دون مشاركة في تأثيث منزل الزوجية وأحقية الرجل في استرداد ما دفعه إذا طلبت المرأة الطلاق هذا دون أى إحساس بالخروج على القيم السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها فالثابت أن للغجر في شتى أنحاء العالم حياتهم الموازية للواقع الاجتماعي السائد فلا تلتقي قيمهم بقيمه أبداً في الوقت الذي لا ينعزل فيه الغجر عن هذا المجتمع ويفضلون الحياة على هامشه بشكل مواز له دون الاندماج فيه أو الانفصال عنه فهو مصدر رزقهم وتعيشهم في نهاية المطاف .
وقد عانت ـ ولاتزال أجهزة الأمن تعاني من عصابات النساء الهنجرانية اللاتي يسافرن في مواسم الحج والعمرة كل عام بغرض النشل واستغلال ذلك التجمع البشري الهائل للحجاج من كل جنسيات العالم ورغم كل التدابير الوقائية والإجراءات الإدارية التي تحول دون سؤالهن في هذه المواسم إلا أنهن بالتعاون مع محترفى التزوير وبعض المحامين المتخصصين في هذه القضايا يقمن بالتحايل على هذه الإجراءات بالسفر لبلاد أخرى ومنها يسافرون للحج أو العمرة أو تزوير جوازات السفر أو غيرها فلهذه المواسم أهميتها القصوى بالنسبة لهن فقد أكدت لي إحداهن أن متحصلات النشل لبعض النساء قد تصل إلى نصف مليون ريال سعودى في فترة لا تتجاوز شهراً ثم يقمن بتحويل هذه النقود عبر بعض المؤسسات المالية بأسماء آخرين داخل مصر.
وتختلف مسميات هذه القبائل تبعاً لتوزيعها الجغرافي على خريطة البلاد، ففي الصعيد يطلق عليهم الأهالي "الحلب" وفي الفيوم يعرفون بـ "النور" أما في القاهرة فيسمونهم "الهنجرانية" وفي الدقهلية يطلق عليهم "الغجر" وعموماً فإن دراسة تقاليد وأعراف والأصول العرقية لهذه القبائل لهو يتطلب تضافر جهود متخصصين في علوم الاجتماع والنفس والإنثربولوجي